سقاء مدينة الكاف التونسية
تتناول هذه الدراسة التعريف بمِهنة من أهم المهن التي عرفتها مدن وحواضر العالم منذ القديم وظلت صامدة حتى وقت قريب جدا في الفترة المعاصرة، وقد بقيت مهمشة في البحوث التاريخية والتراثية مثلما كان صاحبها مهمشا اجتماعيا في جميع الحضارات التي عاش فيها. سنهتم بشخصية السقّاء في مدينة الكاف وهو الذي يجلب الماء إلى البيوت والمحلات التجارية، هذه المهنة التي انتشرت في مدن الحضارة العربية الإسلامية الكبيرة منها والصغيرة في شرق البلاد ومغربها.
عُرف السقّاء في مدينة الكاف، التي تقع في الشمال الغربي من البلاد التونسية، باسم النَقَّالْ، وتنطق بالقاف ذات الثلاث نقاط، نَـﭬَـالْ، وقد اكتسب هذه التسمية من اسم الأداة التي يضعها على ظهر الحمار الذي يستعمله في نقل الماء، وتسمى نُقْلَةْ، وهي عبارة عن قطعة مصنوعة من نبات الحلفاء في شكل زنبيل يحتوي على أربع ثقب ذات شكل مخروطي تتوزع اثنتان من كل جهة لضمان توازن الجرار الفخارية حين توضع كل جرة في ثقب. يسمى السقاء في مدينة صفاقس طَرَّاقْ لكونه يطرق الأبواب للإعلان عن قدومه.
يتميز هذا النشاط بصعوبته نظرا لضيق أزقة المدينة وهي أيضا ملتوية ومظلمة أحيانا، زد على ذلك فهي مدرجة نظرا لموقع مدينة الكاف على منحدر جبل، إضافة لذلك فان المصدر الأساسي للماء هو رَاسْ العَينْ والتي تقع في الحي الموجود أسفل المدينة مما يتطلب مضاعفة الجهد المبذول من قبل النقال ودابته.
تستفيد من خدمات النقَال جميع العائلات الكافية الثرية منها والفقيرة على حد السواء، وبطبيعة الحال كانت العائلات من الصنف الأول أفضل الحرفاء لاستعمالها الماء بكثرة وفي مختلف الأنشطة المنزلية. وقد كان لكل نقّال حرفائه المعروفين ينقل لهم الماء يوميا أو يوم بعد بحسب الاتفاق، لكن قد يضطر أحدهم لطلب المساعدة من أحد زملائه عندما تكون لإحدى العائلات مناسبة تتطلب كمية من الماء أكثر مما هو معتاد وعادة ما يكون ذلك بمناسبة احتفالات الزواج.
وجد في مدينة الكاف في بداية القرن العشرين عدد كبير من النقالة نظرا لارتفاع عدد السكان تراهم متجمعين بالعشرات في نبع الماء ثم ينطلقون كل في اتجاهه نحو الحي الذي يقطنه حريفه ومنها حي بن عينين وحي الشرفيين وحي سيدي بومخلوف، ويتقاضون أجرا أسبوعيا أو شهريا نظير ما يقومون به من عمل. كان أغلب النقّالة لا ينتمون للمجتمع المحلي وهم يفدون خاصة من بلاد الجريد بالجنوب التونسي المنطقة التي اشتهرت بواحاتها ذات التمور الممتازة، وكان هؤلاء يستغلون فصل الشتاء ونقص الطلب على بضاعتهم لزيارة ذويهم في موطنهم الأصلي.
تذكر العديد من الروايات عن الصداقات التي جمعتهم ببعض العائلات الكافية وعن الهدايا التي يقدمها النقال عند العودة من زيارة أهله وتتمثل أساسا في دِقْلَةْ النور التي تعتبر من أجود أصناف التمر بالبلاد التونسية شكلا وطعما. كما ربطت أواصر الثقة بينهم وبين سكان المدينة إلى درجة عدم وجود حرج في اختلاطهم، في نبع الماء، بالنساء والفتيات اللاتي تأتين لملأ جرارهن خاصة ممن يقطن على مقربة من العين. سمحت عدة عائلات أيضا للنقال بدخول مساكنها وإفراغ حمولته من الماء في جرار كبيرة معدة خصيصا للغرض، في حين اكتفت أخرى بالسماح له بدخول سقيفة المسكن لإنهاء مهمة تزويدهم بالماء.
رغم تغير وسيلة عمل السقاء من قرب جلود الماعز إلى جرار من فخار مجلوبة من مدن بعيدة اختصت بصنعها مثل جربة والمكنين ونابل، وتغيرها مرة ثانية بعد دخول الاستعمار الفرنسي المدينة حيث أصبح أغلب النقالة يستملون براميل خشبية صغيرة تستعمل أساسا في نقل الخمر، رغم كل ذلك لم تتغير علاقة النقالة بأهلي المدينة وظلت يسودها الاحترام والتقدير المتبادلين. مقابل تغير أوعية نقل الماء فقد بقي الحمار الوسيلة الوحيدة، ظل وفيا وصابرا، وببعد مضي نصف قرن تقريبا على اندثار مهنة النقال من مدينة الكاف لا يزال الحمار يؤدي دورا مهما في المدينة اليوم حيث يستغله المجلس البلدي في رفع الفضلات المنزلية من مساكن المدينة العتيقة التي لا تزال تحتفظ بالأزقة الضيقة، الملتوية والمدرجة.
تمكن السقاء من كسب ثقة الناس وواصل نشاطه الاقتصادي والاجتماعي يوفر للناس في بيوتهم مصدرا من مصادر الحياة وقد تمكن من أداء مهامه على أفضل وجه بفضل توفر حيوان صبور ومطيع وهي لعمري من بين أهم الصفات التي يتميز بها هذا الحيوان الأليف الذي نعت ظلما في حضارتنا العربية بالبهامة.
الدكتور محمّد الجزيراوي