وقفية المدرسة المرادية بتوزر


ملاحظات حول مدينة توزر و واحتها في نهاية القرن السابع عشر من خلال وقفية المدرسة المرادية

بقلم الدكتور : ذاكر سيله 

تمثّل وثيقة تحبيس المدرسة المرادية التي أمر ببنائها محمّد باي المرادي بتوزر في نهاية القرن  السابع عشر إضافة هامة لمعرفتنا بتطوّر المشهد العمراني للمدينة وأوضاع واحتها في بداية الفترة الحديثة. وتعتبر هذه المدرسة أولى المعالم الدينية والتعليمية التي شيّدتها السلطة العثمانية بتوزر وبجهة الجريد بصفة عامة.
تميّز هذا المعلم بوفرة الأملاك المحبّسة عليه والتي عكست العناية الفائقة التي كان يوليها مؤسسها لمنشأته رغبة منه في تدعيم نفوذ السلطة المركزية بهذه المنطقة التي ما زالت القوى المحلية بها خلال هذه الفترة ذات صلاحيات واسعة. وقد أتاحت لنا وثيقة التحبيس تبيّن دور السلطة الرسمية في تدعيم المركز العمراني الجديد بمدينة توزر الذي تمحور حول حي أولاد الهادف وذلك من خلال اختياره ليكون مقرا للمدرسة التي ضمنت أحباسها الكثيرة حسن صيانتها والتكفل برواتب موظفيها وطلبتها. كما سمحت وثيقتنا أيضا برصد وضعية نظام توزيع الماء بواحة توزر في بداية الفترة الحديثة وقدمت معلومات لم يرد ذكرها في المصادر السابقة لها. فمن خلال تفصيل الحقوق المائية للبساتين المحبّسة على المدرسة تبينت لنا الخطوط الكبرى للتوزيع المجالي والزمني لمياه واحة توزر خلال هذه الفترة. إضافة إلى ذلك تبرز وثيقة التحبيس كشاهدة على أوضاع الجباية وبعض التحولات العقارية التي عرفتها الواحة في بداية الفترة الحديثة ، وهي أوضاع استفاد منها أساسا أعيان حي أولاد الهادف الذين ربطت بينهم وبين العثمانيين سياسة تحالف بدأت مع هذه الفترة وتواصلت إلى منتصف القرن 19 .وقد شهدت مدينة توزر خلال الفترة العثمانية تحولات عميقة شملت خاصة علاقتها بالسلطة المركزية، حيث تخلت عن نزعتها الاستقلالية التي ميزتها طوال فترات من العصر الوسيط ، وتطور مشهدها العمراني بتشكل مجال جديد خارج الواحة مفتكّا بذلك مركزية المدينة من المجال الوسيط أمّ الواحة فقد عرفت أيضا تحولات هامة شملت أساسا نظام توزيع الماء بها وأوضاعها العقارية وذلك ارتباطا بتوافد مجموعات بشرية عديدة على المدينة. ورغم عمق هذه التحولات التي عرفتها المدينة وواحتها خلال العصر الحديث ، فإن معرفتنا ببداياتها تبقى محدودة نتيجة قلة المصادر المتوفرة حول الجهة وخاصة في القرن 17 . وفي هذا الإطار كان الاعتماد على وثائق الأوقاف لإثراء معرفتنا بهذه الفترة التاريخية ، خاصة وأن هذا الصنف من الوثائق يتميز بتنوع وثراء المعطيات التي يوفّرها. ويحتوي دفتر الأوقاف المرادية حبس مدرسة توزر"، وهي نسخة من « رسما لعقد تحبيس لعقارات وقّفها محمد باي المرادي على المدرسة التي أنشأها بمدينة توزر سنة 1102 ه/ 1690 -1691 م، يصحبه "بيان مصرف الحبس" الذي يفصّل كيفية توزيع ريع هذه الأحباس على المدرسة وكذلك الجامع الملاصق لها وعلى موظفيهما. يعود تاريخ أصل هذا الوثيقة إلى سنة 1103 ه/ 1692 ، أي بعد فترة تميزت بشدّة الصراع على حكم الإيالة التونسية بين محمد باي وأخيه علي باي والذي كانت فيه مدينة توزر إحدى واجهاته. فبعد انتهاء الصراع لفائدة محمد باي بعيد سنة 1686 شهدت البلاد استقرارا مكّن من تحسين الظروف التي ساعدت على القيام بالعديد من المشاريع العمرانية والمعمارية التي استفادت منها مدن كثيرة بالإيالة.
وتحتوي الوقفية على معلومات متنوعة حول مدينة توزر وواحتها في نهاية القرن 17 ، فهي تبيّن أهمية الأملاك المحبّسة على المدرسة المرادية التي تمثل أولى المعالم الدينية والتعليمية العثمانية بالمدينة، وهي أحباس ساهمت من خلال أهمية ريعها في حسن إدارة المنشأة. كما تبرز الوثيقة كشاهدة على وضعية نظام توزيع الماء وبعض التحولات الجبائية والعقارية التي شهدتها واحة توزر في بداية الفترة الحديثة.
المدرسة المرادية: أولى المعالم الرسمية العثمانية بمدينة توزر تمثل المدرسة المرادية بتوزر أولى المعالم الدينية والتعليمية التي أسستها السلطة الرسمية بالمدينة وبالجريد بصفة عامة. أمر ببناء هذا المعلم محمد باي المرادي سنة 1102 ه/ 1690 - 16917 جملة من المنشآت العمرانية والمعمارية في عدة مناطق من الإيالة. كان اختيار السلطة المرادية على حي أولاد الهادف ليكون مكان بناء المدرسة، وهو اختيار يفسر بسياسة
التحالف التي انتهجتها السلطة المركزية مع الاعيان المحليين بدواخل الايالة. فقد مثل حي أولاد الهادف أو ربط فطناسة" منذ بداية تشكّله في النصف الثاني من القرن 15 القسم الذي عمّره أثرياء المدينة وأصحاب النفوذ الأكبر بها، وتطورت مكانته العمرانية من ربض إلى مركز المدينة الحديثة. كما مثل شيوخ هذا الحي الحكام الفعليين لتوزر إلى منتصف القرن 19 .أشار الدرعي إلى المدرسة أثناء مروره بمدينة توزر سنوات قليلة بعد تأسيسها ووصفها بالجيّدة وذكر أن أعمدتها كلّها من رخام. وحسب نص الوقفية المرادية فإنه كان يقطن بها عشرون طالبا أي أنه من المرجح أن تحتوي المدرسة على الأقل على عشرين غرفة لإيوائهم. وقد مثل هذا المعلم بعد تأسيسه مركزاعلميا هاما بمدينة توزر حيث تميز بإشعاع شيوخه وكثرة التلاميذ الذين درسوا عليهم.
تعدّد الوقفية الملكيات المحبّسة على المدرسة، وهي ملكيات تتميز بكثرتها وبتوزّعها بين مدينة قفصة وواحتي توزر ونفطة: تذكر وثيقة المدرسة المرادية عددا هاما من أسماء السواقي التي تسقي واحة توزر من بينها أحد الوديان الثلاثة الكبرى التي أشير إليها منذ القرن 11 م وهو "واد الأوسط"، كما تذكر الأقسام الثلاثة الكبرى المكونة للواحة وهي "جرّ الأوسط" و"جرّ ساقية الربط" و"جرّ عبّاس".
تنقسم الوديان الثلاثة الكبرى إلى ستة جداول حسب أول وصف لنظام توزيع الماء بواحة توزر في القرن 11 م وإلى سبعة حسب آخر استعمال لهذا النظام في بداية القرن العشرين. تنسب الذاكرة الجماعية هذا التحول إلى المؤلف التوزري ابن شباط الذي عاش في القرن 13 م ، وهو رأي شائع بكثرة في مدينة توزر أين يرتبط نظام توزيع المياه بواحتها دائما بهذه الشخصية التاريخية، وهو ما يطرح علينا فعلا إشكالية العلاقة بين هذا النظام وابن شباط. إن ما هو متوفر من مصادر ووثائق مختلفة لا يتيح لنا البتة تأكيد هذا الرأي، بل إن هذه الفكرة لم يرد ذكرها في النصوص إلا منذ نهاية القرن 1921 ، أما قبل ذلك فلم يشر إليها أي من الرحالة العرب أو الأوروبيين الذين زاروا المدينة واسترعت انتباههم واحتها ونظام توزيع صلة السمط" لابن شباط إشارة واحدة توحي بمساهمته في هذا النظام، بل إننا « مياهها. كما أننا لا نجد في نراه يؤكد ما ذكره البكري حين ينقل عنه قسمة كل نهر من الأنهار الثلاثة إلى ستة جداول. انطلاقا مما تقدّم يمكن التأكيد أن إضافة ساقية سابعة لكل واد من الوديان الثلاثة المتفرعة من النهر الرئيسي قد تمت بعد القرن 13 م، وهي مسألة يمكن ربطها بالتحولات البشرية العميقة التي شهدتها المدينة منذ هذا التاريخ، حيث بدأت أعداد كبيرة من عرب مرداس في الإستقرار بها بعدما كان مشهدها البشري مكوّنا أساسا من الروم والأفارقة والبربر .