الإبداع الفني في الحرف التقليدية النسائية في تونس


 يؤكد الواقع اليوم على أن الدول الأكثر تطورا في مجال الصناعات الحديثة بدأت تهتم بالحرف الفنية النادرة التي مازالت متوفرة ببعض مناطقـها و تعمل جاهدة على إثارة المواهب في عدة اختصاصات للمحافظة عليها و تطويرهـا.أمــا في العالم العربي فقد كادت عدة دول أن تفرط كليا في رصيدها من هذه الصناعـات الفنية و تحكم عليها بالاندثار و الفناء التام بعدما أصبحت تعتمد في العقود الأخيرة اعتمادا مفرطا على الصناعات البديلة و المستوردة أساسا و من ثمة اندثرت حرف عديدة رغم مقاومة أهلها و ما بقي حاليا أصبح مهمشا أو معزولا عن وظيفة الأصلية أو التي يمكن أن تكون له. 
      و قد ساهمت عدة أطراف في تونس مثلا في المحافظة على اختصاصات فنية عديدة سواء كان ذلك على المستوى الرسمي أو على مستوى الفردي. ويبدو من خــلال دراستنا لبعض الحرف القيمة الثابتة لدور المرأة التونسية في هذا الشـأن خاصة بعد إيمانها بضرورة الحفاظ على ما ورثته من تقنيات ومعارف و قيم مع إضافة إبداعـات و تنويعات شخصية طبعا بما يلاءم التطور الذي حدث في البلاد.
      و في هذه الورق العلمية سنحاول إبراز نموذجين مميزين من الحرف الذين امتلكا شهرتهما لا فقط من وظيفة منتجاتهما الأساسية إنما أيضا بقيمة هذا المصنوع الجماليـة و الثقافية، و هما الفخار و النسيج، و للمرأة فيهما باع طويل لحد أنهما أصبحا من اختصاص النساء في كثير من المناطق.

1/ حرفة الفخار

          تعمل المرأة الريفية في تونس في مجال الفخار حسب تقنيات قديمة ورثتها جيلا بعد جيل... وهذه الصناعة في واقع الأمر متداولة في جميع أقطار المغرب العربي وحتى خارجه وتعد اليوم من بين المقومات الثقافية الأساسية ذلك أننا نلاحظ في مستوى هذا الفن وحدة بين هذه البلدان من حيث التقنيات و الزخارف.

        و لا يخفى على احد أن للأدوات الفخارية التقليدية عامة وجهان: وجه دلالي بموجب الوظيفــة المنفعيــة البحتــة التي تؤديها ووجه جمــالي مصدره بساطة شكلها بالــذات و انسجــامه الكلي مع مهامه من ناحية و الزخرف الذي يوشحها من ناحية ثانية ليصبح الزخرف من المكونات الأساسية(1) و يحول المنتوج إلى قطعة فنية و تحفة تجلب الأنظـار لذلك فان الزخارف ليست بالعنصر الطارئ و الإضافي إنما له وظيفة لا تقل أهمية عن الوظيفة المنفعية(2).
            و قد تفننت المرأة الريفية في زخرفة منتجاتها و ذلك باختلاف المكونات المستعملة و الأشكال المرسومة مما ساهم في إبداع أساليب جهوية و حتى محلية، فأصبح هذا الفن ذو حدود لا يتعداها إذ يرتبط بالمحيط الذي تعيش فيه الحرفية و بالإمكانيات التقنية التي توارثتها أو تلك التي تبدعهـا و هي إمكانيــات في العموم متواضعـة، كما أنها تخضع  للعديد من القواعد و الضوابط الدينية عامة و الأخلاقية التي تنشأ تبع للتطورات التي تحدث في المجتمعات المحلية.  
         و تشتغل المرأة على الأواني الفخارية كل بحسب النوعية و المقاييس لذلك عديدة أهمها  المساحة المتوفرة للرسم وشكل الإناء و وظيفته الأسـاسية...فالبرمة(قدر يستعمل للطبخ) وهي عادة ما تكون لها لمس مباشر بالنار يكاد يكون الزخرف مفقـودا فيهـا و إن وجد فهو في مستوى قريب من الفوهة على الأطراف العليا فقط. ومما يلاحظ أن أكثر ما ينتشر الزخرف على الأطباق و الصحون.
          أما فيما يتعلق بالزخارف في حد ذاتها والتقنيات المعتمدة في هذا المجال فهي بسيطة و أهمها:
   - النقش بواسطة عود صغير أو مباشرة بالإصبع على جوانب الآنية قبل حرقها و يكون ذلك في شكل نقاط متتالية(3)أو مجرد نتوئات جانبية صغيرة.
     - حك الآنية بعد خروجها من النار عند عنقها بمادة الدباغ لإضفاء بريق عليها(4). 
   - رسوم على جوانب الآنية الخارجي وهي لا تزال ساخنة بمـادة " البليمـة " و هي زفت معدني  وتأتي الزخارف في شكل خطوط ونقاط متتالية تشبه إلى حد كبيـر الوشم (5).
   - رسوم على الآنية من الخارج أو الداخل بمادة " المغرة " وهي نفس المادة المستعملة     في المغرب الأقصى و تسمى " نغرة " أو بعصير شجر الـذرو وهي الخطوط المنكسرة  و المثلثات...(6)
      و للزخارف التي تبدعها المرأة التونسية من الشمال إلى الجنوب قواعد ثابتة و واضحة إذ هي ليست عفوية و لا عشوائية ،و إذا ما أردنا توضيح ذلك أكثر نقول انه في مستوى العلامة القاعدة المتبعة هي التجريد الهندسي إذ نجد المثلثــات و المربعــات مثلا تملأ بعضها و البعض الأخر يبقى على لون المهاد.
        ففي الرسومات التي توجد على الصحون تنظم الإشكال بالاعتماد على قاعدتين جماليتين هي الإشعاع و الترتيب التراكزي، و حسب المبدأ الأول ترسـم العلامـات انطلاقـا من مركز الآنية الدائري مشعة نحو الأطراف و بحسب الثاني يأتي الزخرف في سجلات محددة بدائرات متحدة المركز و تتحد مع الآنية نفسها في المركز فتتكـون حسب الوجه الذي ننظر منه حركة مندفعة أو نابذة...(7)
        إن المرأة هنا ليست مبدعة بالفطرة فحسب بل هي إلى ذلك لها القدرة و الكفاءة على تجاوز الفطرة إلى تقديم انتاجات فنية على قدر كبير من الصنعة و الحرفية الفنية.
        و يبدو لنا بوضوح أن هذه المرأة ملتزمة أيضا أمام المجتمع لأنها لا تقتل فراغا و لا تشبع حاجة ذاتيـة و لا تعمل من أجل تفريغ طاقة نفسية و إنما تقدم خدمة عملية  لمجتمعها بما أنها تساهم في الضغط على مصاريف العائلة بل و تنتج كذلك في بعض الأحيان لجاراتها و قريباتها. 




 2/  حرفة النسيج:


             النموذج الثاني الذي اخترناه للتدليل على القيمة الفنية للحرف السنوية بتونس فهو النسيج و شهرة هذه البلاد عبر التاريخ في مجال المنسوجات فاقت و تجاوزت حدودها منذ قرطاج إلى يومنا هذا... وتنوعت المنسوجـات من مفروشات كالزرابية و الكليم...    و الملابس كالبخنوق و البرنوس و الأغطية كالمرقوم و الفراشية.
             فالزربية مثلا تسمى الأجود منها بالقيروانية والتي دخلت المدينة حسب المتعارف عليه على يد امرأة و هي"كاملة " ابنة محمد الشاوش والي القيروان من أصل تركـي أخذت الشكل و التقنيات من الزرابي الموجودة لدى والدها و المجلوبة من منطقة الأنـاظول و استعملت مواد أولية تونسية لتبدع شكلا جديدا أنيقـا و جميلا(8). فالزربيـة القيروانيــة الأصيلة هي نسيج من الصوف الطبيعي يتميز مظهره بحاشية تتكون من أشرطة متـوازية حيث تنتشـر زخارف زهرية أو هندسية و تتوسط هذه الحـاشية مساحة مستطيلة ذات ركنيات و يتوسط هذا المسدس محراب معين الشكل.
         و هذا النموذج الأصلي للزربية لم يقيد الحرفيات بل ترك لهن حرية الإبداع وتمثل ذلك في توسيع الحاشية أو تهذيب رسم أو تنسيق زهرة أو خط الحواشي بشريط أو نشر الحقل الأوسط بزخارف مختلفة. و استطاعت النساء في بقية مناطق البلاد تقليد الزربية القيروانية   في تنوعاتها المختلفة إذ أن في كل جهة تتواتر عن امرأة معلمة جاءت من القيروان و استوطنت المنطقة و أدخلت التقنية المشهورة وقد صاغت التأثيرات الحرفية الجهوية و المعتقدات الدينية  و الرموز الاحترازية و الاستعارات المختلفة من زخارف الجليز و التطريز و البلور نماذج زال بعضها و رسخ البعض الآخر.
        و يبقى الأهم هنا أن النموذج لا يفرض سلطة على المرأة المبدعة بل يترك لها الحرية المطلقة وهو الذي أخذت به عقول و أيادي نساء بنزرت  حيث تميزت الزربية البنزرتية بنشر زخارف منظمة ومنسقة مكان الحقل المستطيل أو بتكرار شكل منتظم تربيعا أو تعيينا يعيد تفصيلا من الركنيات القيروانية أو جزئيات أخرى من الحاشية. كما أن للزربية القيروانية اليوم ميزتها الأساسية في استعمال الألوان من الصوف الطبيعي و التي يطلق عليها اسم " العلوشة" ( نسبة للعلوش أي الخروف) وهي الأبيض والأسود مرورا بالرمادي والبني .
    و لنترك جانبا الزرابي و لنتحدث قليلا عن الملابس و منها اصطفينا البخنوق الذي تغنى به الشاعر قائلا:

بخنوق بنت المحاميد عيشة***ريشة بريشة***عامين مايكملوش نقيشه

            وقد برعت المرأة البدوية ولا سيما في الجنوب التونسي في هذا الصنف من الأنسجة و ما التغني بهذه القطعة الأنيقة إلا لمهارة في صنعها و توشى عادة لدى القبائل في صحراء الجنوب الغربي من البلاد التونسية بزخارف و رسوم تدل على الانتماء القبلي للمرأة التي ترتديه. و البخنوق ذو اللون الأسود هو في الأصل  يصنع من الصوف الأبيض بعد ما يمر بعدة مراحل تحضيرية و منها الغسل و التنظيف و النفش والغزل... يصبغ بالأسود بعدما ينسج و بما أن تلك الزخارف قد نقشت بالقطن  فإنها تحافظ على لونها الأصلي فيزيدها ذلك لمعانا   و وضوحا.
         و لكل قبيلة و مجموعة قروية زخرفتها الخاصة و تندر الرموز أو تكثر في البخنوق بحسب القبيلة أو القرية (9) و تتكثف خاصة في مركز القطعة ذات الشكل المستطيل و ربما توجد في الأطراف من حيث سترتديه المرأة بحيث تبرز الرسوم من الخلف ومن الأمام. و من أكثر الرسوم شيوعا لديهم الهلال والنجمة والمشط والحوت (السمكـة) والخمسة... إضافة للأشكال الهندسية مثل المثلثات والمعينات... ومما نلاحظه وجود رسوم مأخوذة من البيئة المحلية و أخرى كونية وجدت عند كل الشعوب و عبر كل العصور...
           تستوحي المرأة نماذجها الزخرفية  و أفكارها إذن من محيطها المباشر فتتوجه خاصة إلى الطبيعة فتقتبس منها بعض تلك العناصر الحيوانية كالجمل و الطبيعية كالنخلة الحشرات السامة كالأفعى و العقرب و تكون دلالاتها مختلفة بحيث يمكن أن تكون وقائية تقي المرأة من الحسد أو ذات دلالات اجتماعية تعرف بانتمائها لمجموعة قروية أو قبلية معينة.

         من خلال كل ما تقدم نستطيع إدراك أهمية العمل اليدوي الأصيل في الحفاظ على أصالة المرأة الريفية رغم عدم وجود تربية تعليمية لها ورغم عدم التأطيـر و التكوين المهني و قدرتها على استعمال الأصباغ و الألوان الطبيعية و الابتعاد عن مخاطر المواد الكيماوية الحديثة المستعملة اليوم في تزويق المصنوعات العصرية ، مما منح مصنوعاتها جمالا طبيعيا أخاذا من ناحية و استمرارها في استخدام التقنيات العريقة و الاحتفاظ بها من ناحية ثانية.




        أما من حيث الإبداع الفني و رغم تعلق المـواضيع الزخرفية بالبيئة المحيطة فان ذلك لم يخفي إرادة الخلق و الابتكار التي تكمن داخلها واستخدام رموز ذات دلالات عالمية وقد أبرزت كل ذلك كما رأينا في عديد من المنسوجات و القطع الفخارية. كما أن استمرار المرأة في التمسك بهذا الجانب الإبداعي في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون تشبثا بالهوية الذاتية التي هي جزء من الهوية الجماعية ذلك لان هذه الحرف الفنية تعتبر رصيدا ثقافيا يرسخ الخصوصيات الثقافية و جمالياتها في زمن العولمة والمرأة هي التي تسـاهم بدور هـام في ترسيخ هذا التراث الحرفي الفني وحماية مقوماته من التلاشـي و الاندثار.

الدكتور محمد الجزيراوي


* الهوامش:
 1) البقلوطي(الناصر)،الفخار الريفي بتونس، الدار التونسية للنشر، دار القلم ،تونس، جانفي1990، ص53.
2) البقلوطي(الناصر)، نفس المصدر، ص53
3) البقلوطي(الناصر)، نفس المصدر، ص52
4) البقلوطي(الناصر)، نفس المصدر ،ص52
5) البقلوطي(الناصر)، نفس المصدر، ص52
6) البقلوطي(الناصر)، نفس المصدر، ص52
7) البقلوطي(الناصر)، نفس المصدر، ص52
8) الزربية التونسية، نشرية أعداها الديوان الوطني للصناعات التقليدية بتونس،1998، ص12.
9)  محلة( محمد المنصف)، متحف الصحراء بدوز، وكالة إحياء التراث و التنمية الثقافية، تونس، بدون تاريخ، ص35.  
                                                                                  
* المصادر و المراجع:
1- أيوب (عبد الرحمان)، رموز ودلالات بالبلاد التونسية، وكالة إحياء التراث و التنمية الثقافية، تونس2003.
2- نور الدين (صدوق)، الإبداع سؤال في الحداثة، مجلة كتابات معاصرة، لبنان، عدد23، سنة 1995.
3- قائد (حياة)، إبداع المرأة و عوائق الايدولوجيا، مجلة الفيصل، السعودية2007، عدد350.
4- بهنسي (عفيف)، الفن الحديث في البلاد العربية، دار الجنوب للنشر، تونس1989.
5- الحيدري( إبراهيم)، اتنولوجية الفنون التقليدية، دار الحوار، سوريا 1984.
6-Delpy(A).poteries rustiques modelées par les femmes du nord marocain. Cahiers des arts et techniques d,Afrique du nord ,1974 ;N7.
7- البقلوطي (الناصر)، الفخار الريفي بتونس، الدار التونسية للنشر، 1990 
8- الزربية التونسية، نشرية أعداها الديوان الوطني للصناعات التقليدية بتونس، 1998  
9- الفخار بين الأمس و اليوم، نشرية أعداها الديوان الوطني للصناعات التقليدية بتونس،1998
10- محلة (محمد المنصف)، متحف الصحراء بدوز، وكالة إحياء التراث و التنمية الثقافية، تونس، بدون تاريخ.
11- الشريف( جمال)، مدارات الإبداع لدى الفنانات التشكيليات التونسيات، مجلة الحياة الثقافية، تونس 2006، عدد175.